“بين جدران البيوت الشعبية، وحكايات الجيران اللي بتتردد على ألسنة العجايز، في قصة زي ما بتكون من نسج الخيال، لكنها موجودة فعلاً بقلوب كتير. قصة شاب ما قدر يشوف النور اللي كانت أمه تضوّيه في عيونها، واختار يطفيه بإيديه. مش قصة حقيقية حصلت قدام عينينا، لكنها صورة من واقع بنشوفه كل يوم، حيث الندم بيجي متأخر، والدموع ما بترجع اللي راح. تعالوا نحكي عن أحمد، اللي خسر أمه وهي لسا عايشة، وبعدها خسر روحه وهو لسا بين الحياة. اقروا معايا باقي القصة، وشوفوا كيف الدنيا بتدور، وكيف العقوق بيترك جرح ما بيبرى.”
كان أحمد واقف عند قبر أمه يوم الدفن، عيونه مليانة دموع، بس قلبه كان أثقل من الحجر. الناس اللي حواليه كانوا يطبطبوا عليه، يقولوا: “الله يرحمها، كانت ست طيبة.” وهو بقلبه يعرف إنه ما كان يستاهل ولا كلمة حلوة من اللي بيسمعها. الذكريات بدت ترجعله زي السكاكين، كل موقف أمه كانت تترجاه فيه يسمعها، كل مكالمة كان يقفلها بسرعة، وكل مرة قالها “مش فاضي” وهو قاعد يضحك مع زوجته وأصحابه.
بعد الدفن بأيام، أحمد حاول يرجع لحياته الطبيعية، بس شيء جواته كان مكسور. كل ما يشوف مراية، كان يحس إنه بيشوف عيون أمه بتلومه. زوجته، اللي كانت سبب كبير ببعده عن أمه، بدت تفقد الصبر عليه. كانت تقوله: “شو صايرلك؟ صرت زي اللي ميت، تحرك، ارجع زي أول!” بس أحمد ما كانش قادر يرجع. كل ما يسمع كلمة “أم” من حدا، كان يحس بطعنة بصدره.
السنين مرت، وأحمد صار عنده ولد، سماه “محمد” على اسم جد أمه. كان يحب ولده حب ما شافه بحياته، وكل ما يكبر محمد، كان أحمد يخاف. يخاف إنه يعيش نفس اللي عاشته أمه معاه. كان يقعد جنب ولده بالليل، يحكيله عن جدته، عن تعبها وحنانها، وكيف هو ما قدرش يكون قد المسؤولية. بس محمد كان صغير، ما بيفهم، وأحمد كان يعرف إن الحكي ما بيرجع الزمن.
مرة، وهو قاعد بمكتبه بالشغل، دق تلفون، وكانوا اخواته يبلغوه إن بيتهم القديم، اللي أمه كانت تسكنه، لازم يتباع عشان دين عليه. أحمد راح يشوف البيت، ودخل أوضة أمه. لقى كرتونة صغيرة تحت السرير، فتحها، وكانت مليانة رسايل كتبتها أمه بإيديها. رسايل كانت بتبعتله ياها زمان، بتترجاه يزورها، بتحكيله عن تعبها وحبها له، وبعضها كان فيه كلام زي: “يا أحمد، خايفة أموت وما أشوفك.” عيونه غرقت دموع، وهو بيقرا كل كلمة كأنها حبل بيشنقه.
من يومها، أحمد تغير. صار يروح المقبرة كل جمعة، يقعد عند قبر أمه، يقرأ قرآن، ويطلب السماح. بس السماح ما بيجي من الميت، والحياة ما بترجع لورا. شغله ضعف، زوجته تركته وأخدت محمد معاها، وأحمد بقي لوحده، عايش على ذكرى أمه وندم ما بيروح.
الناس بالحارة كانوا يشوفوه ويقولوا: “مسكين أحمد، كان عنده كل شيء وخسره.” بس الحقيقة إنه ما خسر الدنيا، خسر أمه، ومعاها خسر روحه. القصة هذي مش بس عن أحمد، عن كل واحد فينا بينسى إن الأم هي النور اللي لو طفى، الظلمة بتفضل تلاحقه لآخر العمر.